فصل: مشكلات تعترض طريقنا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلفيون والأئمة الأربعة **


السلفيون والأئمة الأربعة

رضي الله عنهم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده سبحانه، وأشهد أن لا إله إلا هو، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى صراط ربه، والذي قال ‏[‏تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك‏]‏ ‏(‏رواه ابن ماجة 43، وأحمد ‏(‏126‏:‏4‏)‏‏)‏ وأسأله تعالى، أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين‏.‏‏.‏

وبعد، فإن المسلمين اليوم، في أمس الحاجة إلى الاجتماع على كلمة واحدة، ولا يمكن أن يحصل لهم ذلك إلا إذا اجتمعت كلمتهم على الكتاب والسنة عقيدة وتشريعاً وسلوكاً وإن الدعوة إلى الكتاب والسنة، تصطدم بتحجر المقلدين، الذين يظنون أن في الدعوة إلى الكتاب والسنة، وتوحيد الفقه والتشريع، تنقيصاً من شأن الأئمة الأربعة -رضي الله عنهم- أو انتقاصاً لهم، ولذلك يقومون بالتشويش على دعوة الكتاب والسنة، زاعمين أنها دعوة لإلغاء الفقه، وفتح باب التخرصات في الدين، وهذه الرسالة الميسرة المباركة -إن شاء الله- بيان لحقيقة الدعوة السلفية في أمر الاجتهاد والتشريع، وبيان موقف السلفيين الحق من الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، والله نسأل أن ينفع بها إخواننا المسلمين وأن يتقبلها منا إنه هو السميع العليم‏.‏

عبدالرحمن عبدالخالق

الكويت 11من رجب سنة 1397هـ

 حاجتنا إلى الاجتهاد

يقسم العلماء العلم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه إلى ثلاثة أقسام‏:‏ قسم إخباري وهو يتعلق بأمور الغيب والآخرة كصفات الله سبحانه وأعماله، والرسالات والملائكة، والجنة والنار والحساب وغير ذلك مما يدخل في مسائل الغيب والإيمان‏.‏

وقسم يتعلق بالأعمال وهو التشريع والأعمال التي كلفنا بها فمنها ما يتعلق بالصلة بين العبد وربه فتسمى العبادات وأعظمها الصلاة والصوم والزكاة والحج، ومنها ما يتعلق بين الناس بعضهم مع بعض كالزواج والطلاق والبيع، والهبة والميراث وهكذا كافة الشئون المالية والسياسية‏.‏‏.‏ الخ، وقسم آخر يتعلق بالكمال الإنساني وهو الأخلاق والتزكية وهذا القسم يتعلق بكلا القسمين الآنفين فهو من ناحية عمل قلبي، فسلامة الصدر من الغل والحسد خلق، وهو من ناحية ثانية عمل ظاهري تشريعي، فالسماحة والبذل والشجاعة وإكرام الضيف وما إلى ذلك أعمال ظاهرية‏.‏

والقسم الأول العقائد لا يدخله التغيير ولا التبديل ولا الزيادة أو النقص فهو ثابت في الرسالات جميعها وعلى لسان الأنبياء جميعاً‏.‏

وأما القسم الثاني فهو خاضع للظروف والملابسات والزمان والمكان بل هو في حركة دائمة كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏48‏)‏ ولذلك اختلفت شرائع الأنبياء بعضهم عن بعض، ولا يعني هذا الاختلاف من جميع الوجوه بل أصول الشرائع أيضاً متفقة‏.‏

وبالرغم من أن شريعة الإسلام قد كملت بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم فإن المسلمين في تاريخهم الطويل قد احتاجوا إلى أن يستنبطوا من هذه الشريعة أحكاماً لقضاياهم ومشكلاتهم المتجددة بتجدد الزمان والمكان والحوادث‏.‏ ولذلك كان التشريع للحياة حركة متجددة بتجدد الحياة‏.‏ وهذا يعني أيضاً أو وقف التشريع للوقائع المتغيرة هو عزل للشريعة عن حياة الناس لأن الحياة مستمرة‏.‏ والتشريع ضوابط لهذه الحياة والحركة المستمرة، فإذا تخلفت هذه الضوابط انفلت الناس إلى شرائع أخرى وقوانين جديدة وهذا ما حدث تماماً بالنسبة للشريعة الإسلامية حيث عزلت عن حياة الناس وعن التقنين لهم بجمود الحركة الفقهية التشريعية أولاً ثم بالعزل السياسي والاجتماعي للتشريع الإسلامي‏.‏

وأما الأخلاق فبالرغم من ثباتها من حيث المبادئ والأصول، فالجانب العملي فيها يتغير تبعاً للظروف والملابسات، فالصبر والشجاعة والكرم وإن كان المعنى الأصلي فيها ثابتاً باقياً إلا أن المواقف التي تقتضي ذلك متغيرة أيضاً‏.‏

هذه الحركة المتغيرة الدائبة للتشريع الإسلامي تقتضي أن يكون لدينا في كل العصور وعلى مدار التاريخ رجال علماء أكفاء يضبطون حياة الناس ويوجهونها وفق الإسلام‏.‏ وهؤلاء العلماء لا يجوز فقط أن يكونوا في موقف الإفتاء فقط، بل أيضاً في موقع التنفيذ والقضاء، ولذلك اشترط المسلمون للإمام العام أن يكون مجتهداً وذلك أنه يحتاج في كل يوم أن يتخذ من المواقف والأحكام مع المسلمين وغيرهم من الأعداء المحاربين، والمسالمين والمستأمنين والمعاهدين ما يتفق مع الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى وهذا يحتاج إلى الاجتهاد، وكذلك اشترط في القاضي أيضاً أن يكون مجتهداً لأن الوقائع والمشاكل التي تعرض على القضاء ليست متماثلة بما وقع في صدر الإسلام وفي عهد التشريع من كل وجه، بل في كل يوم يواجه القضاء مشكلات جديدة وحيلاً شتى ووقائع متغيرة، وما لم يكن القاضي فقيهاً مجتهداً فإنه لا بد وأن يحكم بالجهل ويقع في الظلم‏.‏

لهذه الأسباب فالمسلمون يحتاجون في كل يوم بل في كل ساعة إلى اجتهاد فقهي جديد‏:‏ اجتهاد في الإفتاء، واجتهاد في القضاء، واجتهاد لتنفيذ الأحكام وتطبيق الشريعة وفق مقتضيات الحال وتغير المشكلات‏.‏ ولنضرب على هذا أمثلة من واقعنا السياسي‏:‏-

* سياسياً‏:‏ المسلمون اليوم في حاجة ماسة إلى خلافة راشدة فكيف توجد الآن وما هو الطريق لها وفق الكتاب والسنة‏؟‏‏!‏ يحتاج هذا إلى اجتهاد ودعوة‏.‏‏.‏ نقابل اليوم أعداء كثيرين فاليهود تحتل أرضنا وتشرد رجالنا ونساءنا وأطفالنا، فما هو الواجب اليوم معهم‏؟‏ هل الواجب الحرب أم العهد أم السلام والصلح‏؟‏‏!‏ وإذا كان الحرب فكيف‏؟‏‏!‏ وإذا كان العهد فما هي مواصفاته وشروطه‏؟‏‏!‏‏!‏ وإذا كان السلام فما أيضاً مواصفاته وشروطه‏؟‏‏!‏

* إقتصادياً‏:‏ هل يجوز أن نودع أموالنا في بلاد الغرب‏؟‏‏!‏ وإذا كان جائزاً فهل يجوز وضع هذا المال بالفوائد أم بدونها‏؟‏ وإذا لم يكن جائزاً فما الحل‏؟‏‏.‏‏.‏ هذا إلى عشرات ومئات المشكلات الاقتصادية في العمل، والشركات، والتأمين، والتجارة، وتحويل المال و‏.‏‏.‏ وكل هذا يحتاج إلى علماء أعلام يفهمون الحياة ونظم المال الحاضرة ويفتون المسلمين بما يجب عليهم في كل هذا‏.‏

وهكذا مشكلاتنا الاجتماعية والخلقية والنفسية، ومشكلات التطبيق للشريعة الإسلامية في العصر الراهن ومشكلات المسلمين في بلاد الكفار إلى آلاف المشكلات وكلها تحتاج إلى اجتهاد وحلول‏.‏

باختصار، المسلمون اليوم في حاجة ماسة إلى حركة اجتهادية تجديدية لا تكتفي فقط بإصدار الفتوى ولكن أيضاً بمواكبة العمل بالإسلام في إطار الفرد والجماعة والدولة‏.‏ وهذه الحركة الاجتهادية التجديدية هي التي تميز للمسلمين طريق العمل بالإسلام في الوقت الحاضر وتأخذ بخطاهم خطوة خطوة نحو تحكيم الشريعة في جميع شئون الحياة، وبدون هذه الحركة التجديدية الاجتهادية الكاملة ستبقى الشريعة الإسلامية بمعزل عن حياة الناس وواقع التطبيق كما هو حادث الآن‏.‏

 كيف نجتهد

عرف العلماء الاجتهاد الشرعي بأنه بذل الجهد للوصول إلى ظن بحكم شرعي‏.‏ وهذا يعني أن المجتهد يبذل جهده ليعرف مراد الله سبحانه وتعالى في قضية ما‏.‏ فإما أن نعرف الحكم من نص قرآني أو حديث نبوي أو إجماع للصحابة رضوان لله عليهم‏.‏

وأما أن يعرف هذا باستنباط وفهم من آية أو حديث وهذا الفهم يصيب ويخطئ، ولذلك كان الاجتهاد الذي ينبني على الفهم والاستنباط ظنياً لأن الفهم والاستنباط غير معصوم ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله‏:‏ كل رجل يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر‏.‏ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏إرشاد السالك‏(‏227‏:‏1‏)‏‏)‏‏.‏

والذي يعمل عقله وفهمه لمعرفة حكم ما لا بد بالطبع أن يكون أهلاً لذلك، ولذلك وضع العلماء شروطاً للاجتهاد أعدلها‏:‏ أن يكون المجتهد على علم بالقرآن والسنة وفهم لغة العرب وفهم الحادثة والواقعة المراد التشريع لها ومعرفة النصوص الخاصة في شأن مثل هذه الواقعة‏.‏ وهذا العلم بحمد الله متيسر لكل من بذل في هذا جهداً مناسباً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‏}‏ ‏(‏القمر‏:‏17‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏بعثت بالحنيفية السمحة‏]‏ ‏(‏أخرجه أحمد ‏(‏266‏:‏5‏)‏ والطبراني ‏(‏7868‏)‏ وهو حديث حسن‏)‏، وقال‏:‏ ‏[‏إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه‏]‏ ‏(‏أخرجه البخاري ‏(‏93‏:‏1‏)‏، ويسر الإسلام ليس في العمل فقط بل في الفهم أيضاً‏.‏ ولذلك لم يخل تاريخ المسلمين في كل عصورهم -بحمد الله- وتوفيقه من رجال أكفاء كانوا على مستوى الاجتهاد والفهم العام لدين الله سبحانه وتعالى وتعليم الأمة وتوجيه مسارها إلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى‏.‏

ولا يشترط بالضرورة أن يكون كل من قال قولاً في الدين أن يكون قوله صواباً موافقاً للحق بل كل من اجتهد في هذا الدين بعد رسول الله وإلى يومنا هذا قد أصاب وقد أخطأ وقد رد على غيره ورد غيره عليه كما قال الإمام مالك أيضاً‏:‏ ما منا إلا قد رد ورد عليه‏.‏

فهذا عمر بن الخطاب يرد عليه الصحابة في وقائع كثيرة جداً كالتيمم وتقسيم السواد، وتحديد المهور، وكذلك عثمان رضي الله عنه رد عليه الصحابة في وقائع كثيرة من العبادات والمعاملات، وعلي خالفه الصحابة في كثير من القضايا الفقهية والسياسية‏.‏‏.‏ الخ ‏(‏انظر أعلام الموقعين لابن القيم‏)‏‏.‏

فكيف بغيرهم من العلماء والفقهاء‏؟‏‏!‏‏!‏

ومهما كان الأمر فإن الله سبحانه وتعالى الذي ضمن لنا حفظ هذا الدين لم يضمن حفظ نصوصه فقط بل ضمن سبحانه وتعالى تطبيقه وفهمه في الأمة وإلى قيام الساعة، فلا يزال قائم لله بحجة فرداً‏.‏ كان أو جماعة حتى يأتي الدجال كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك‏]‏ ‏(‏اخرجه البخاري ‏(‏164‏:‏1‏)‏ ومسلم ‏(‏1524‏:‏3‏)‏ وهو حديث متواتر‏)‏‏.‏

وهذه الطائفة التي تقوم بالحق لا شك أنه يعترضها كل يوم من المشكلات والأقضيات والحوادث ما لم يكن في زمن الصدر الأول ولا شك أن هذه الطائفة محتاجة دائماً إلى اجتهاد دائم ينير طريقها وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا الاجتهاد الدائم المتجدد للحوادث المتجددة هو ما نحتاجه دائماً‏.‏ وهو ما يقع فيه الخطأ والصواب‏.‏

والإسلام منذ أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قد راعى ذلك، فالرسول الموحى إليه علم الله أنه لن يبقى في الأمة إلى نهاية الدنيا وأنه سيخلفه الخلفاء وسينقطع الوحي من السماء ويبقى لهم الفهم والاستنباط والاجتهاد، وعلم الرب تبارك وتعالى أيضاً أنهم سيتعرضون للخطأ والصواب ولذلك لم يكلفهم شططاً بالوصول إلى الصواب في كل رأي وفي كل اجتهاد لأن هذا تكليف بما لا يطاق ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏]‏ ‏(‏رواه البخاري ومسلم وأحمد‏)‏، ووقعت حوادث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اقتضت الاجتهاد واجتمع الصحابة فيها أحياناً على رأي واحد واختلفوا أحياناً إلى آراء كثيرة‏.‏ وكان من هذه المشكلات‏:‏ الخلافة لمن‏؟‏ وهل ينفذ جيش أسامة وقد ارتد العرب أم يحارب المرتدون‏؟‏ وهل مانعوا الزكاة مرتدون يجب قتالهم أم مسلمون لا يجوز سفك دمائهم‏؟‏ وهل يحارب فارس والروم أم لا‏؟‏ وهل عمر بن الخطاب يستحق الخلافة بالعهد أم لا‏؟‏ ومن يتولى بعد عمر هل بعهد كما فعل أبو بكر أم بترك الأمر للمسلمين كما فعل رسول الله‏؟‏ واقترح عمر النفر الستة الذين توفى الرسول وهو عنهم راض ونظم نظاماً فريداً لاختيار رجل منهم‏.‏ ومئات المشكلات في خلافة عثمان ومثلها في خلافة علي بن أبي طالب هذا إلى مئات من المشكلات الاجتماعية التي كان للخليفة رأي مخالف لرأي الناس نحو مشكلة اسكان سبى الفرس وصناعهم بالمدينة النبوية‏:‏ رأى عمر أن تطهر المدينة منهم ورأى العباس وابنه عبدالله أنه لا بأس بهذا وكان رأي الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يمنعوا من سكنى المدينة‏.‏

هذه المشكلات وغيرها كثير جداً احوجت المسلمين إلى اجتهاد، وإذا جئت تعدد مشكلاتنا اليوم في كل ناحية من نواحي الحياة لوجدت أننا في حاجة ماسة إلى جهود عظيمة واجتهاد بالغ وفهم عميق للكتاب والسنة لنستطيع أن نسير حياتنا وفق منهج الله سبحانه وتعالى‏.‏

 هل يوجد المجتهد المطلق‏؟‏

أنزل الله سبحانه دينه ليسع الناس جميعاً‏.‏ وليسع الأرض جميعاً، وليسع الزمان جميعاً من لدن محمد صلى الله عليه وسلم وإلى قيام الساعة‏.‏

وهذه السعة في الزمان والمكان والخلق على تعدد المشكلات واختلاف النيات وكثرة الاحتمالات لا يسعها عقل مهما أوتي من قدر في الحفظ والذكاء‏.‏ والدين الذي أنزله سبحانه وتعالى ليس شأناً واحداً من شئون الناس، وإنما هو شئونهم جميعاً‏:‏ حياتهم وموتهم، وعبادتهم ومعاملاتهم، وأخلاقهم‏.‏ فما من شأن من شئونهم إلا وهو في إطار الدين وجوباً أو إباحة أو ندباً أو تحريماً أو كراهة، فقلوب الناس يجب صياغتها وفق عقائد هذا الدين وموازينه، وأخلاق الناس يجب تقويمها وفق أخلاق هذا الدين ومثالياته، ومعاملات الناس -على تعدد هذه المعاملات- قد وضع لها أصول وقواعد وضوابط لتحقيق العدل والسعادة، وتحت كل باب من هذه الأبواب فروع كثيرة جداً، وهذه الفروع تكثر بكثرة المشكلات وتتجدد بتجددها‏.‏

فلو جئت إلى باب العقائد ومسائل الإيمان -مثلاً- لعلمت أنك تستطيع أن تلم بعقائد الإسلام وعلومه في الغيب في وقت يسير، ولكن إذا أردت تصحيح عقائد الناس وفقاً للعقيدة الإسلامية لوجدت أنك أمام بحر متلاطم من المشكلات والحوادث والباطل الذي يحتاج إلى ردود وتفنيد، ولو وجدت أيضاً أنك أمام شبهات حول الدين تكاد لا تدع فرعية من فرعيات هذه الدين إلا وشوهت صورتها وطمست معالمها، وكل هذا يحتاج إلى رد وإبطال‏.‏ وهكذا فالحركة بهذا الدين تحتاج إلى جهد جهيد وجهاد طويل لا يقف عند حد، وكذلك الشأن في جميع أبواب علوم الإسلام التي تنظم حياة الناس جميعاً‏.‏ ولما كانت هذه العلوم جميعها لا يستوعبها عقل، ولا يحيط بها فكر كان القيام بالدين جهاداً وعملاً ودعوة وقضاء وسياسة أمر متعذر لا يمكن أن نرى المجتهد المطلق الذي يعلم كل شيء ويفتي في كل شيء ويحكم على كل شيء، لأنه إن كان يوجد عالم على هذا النحو فليس إلا الله وحده العليم بكل شيء سبحانه وتعالى‏.‏ وأما البشر فمهما أوتوا من سعة العلم، وسعة الأقوال وحدة الذكاء فلن يستطيعوا أن يحيطوا من الدين إلا بجوانب منه تضيق وتتسع بما ينعم الله سبحانه وتعالى على من يشاء منهم‏.‏

ولذلك لا يجوز بتاتاً أن نتصور المجتهد المطلق في أي حقبة من حقب التاريخ لهذا الدين‏:‏ خليفة كان أو إماماً أو قاضياً أو مفتياً بل يجب أن نتصور دائماً أن سعة الدين أكبر من سعة الفرد‏.‏ وأنه لا يسع الدين كله إلا الجماعة ولذلك أصبحنا نحتاج في دراسة الإسلام إلى أمرين هامين‏:‏-

أولاً‏:‏ المعرفة الكلية العامة للدين، وهذه المعرفة الكلية لا بد وأن تشمل أساسيات هذا الدين من إيمان وعبادات ومعاملات وأخلاق ليأخذ كل فرد التصور العام للدين بمجموعه لا بتفصيلاته‏.‏

ثانياً‏:‏ المعرفة الجزئية التخصصية لأبواب هذا الدين وفرعياته‏.‏ فيحتاج المسلمون دائماً إلى متخصصين في علوم القرآن وفي علوم الحديث وأصول الفقه، والفقه، والمعاملات والسياسات، وإلى متخصصين في الدعوة والجهاد بالكلمة والرد على شبهات الخصوم‏.‏ وهكذا وبمجموع هؤلاء المتخصصين يستطيع المسلمون أن يثبتوا في وجه الزحف الجاهلي الذي يريد اقتلاع حضارتهم ودينهم‏.‏ وكذلك نحتاج من هؤلاء المتخصصين إلى المجتهدين الماهرين لا إلى المقلدين الجامدين الذين يعيشون على مستوى الأحداث فهماً ومواجهة وتفاعلاً‏.‏‏.‏ فهماً للأحداث الجارية، ومواجهة للباطل من هذه الأحداث بما تقتضيه هذه المواجهة، وتفاعلاً مع هذه الأحداث على النحو الذي يثري أمة الإسلام في أفرادها وعلومها ويحقق لها عزتها ومكانتها‏.‏

باختصار، لم يوجد المجتهد المطلق في تاريخ الإسلام ولن يوجد هذا المجتهد المطلق حتى قيام الساعة، وإنما هناك العلماء الذين يأخذ كل منهم من العلم بقدر استيعابه وفهمه فيخطئ ويصيب، وتبقى الأمة بمجموعها معصومة عن الخطأ ‏(‏إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة‏]‏ وهو حديث صحيح لطرقه‏.‏ رواه الترمذي وغيره‏)‏، ويبقى الصواب موزعاً بين أفراد هذه الأمة، والصواب فضل الله، يؤتيه من يشاء، ولا يمكن ولا يجوز أن يحتكر رجل من الرجال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصواب كله أبداً وأن تكون أقواله كلها قرآناً ووحياً منزلاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏.‏

 الثابت والمتغير في الدين

أصاب المسلمين ضرر عظيم من فهم بعضهم الخاطئ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏3‏)‏، هذه الآية من القرآن وما يشهد لمعناها من الحديث كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد‏]‏ ‏(‏أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة‏)‏، وحكموا على كل إضافة في الدين بالبطلان والرد، وبذلك عطلوا باباً من أعظم أبواب الإسلام وهو باب الإجتهاد التطبيقي، ووقفوا جامدين أمام مشكلات التطبيق وتغير الأحوال‏.‏

وقام بإزاء هؤلاء طائفة أخرى زعموا أن كل قول في الدين صدر عن إمام أو عالم فهو حق لأنه من الدين، وقد يكون مستنداً إلى الدليل‏.‏ وبذلك أصبح الدين عند أولئك واسع سعة كل الفتاوى والآراء والأقوال التي صدرت عن مجتهدين، ووسع هؤلاء الاجتهاد أيضاً حتى شمل العقائد والعبادات والأخلاق وبذلك صار الدين عند هؤلاء مسخاً مشوهاً لا تناسق فيه بأي وجه من الوجوه بل في كل قضية رأيان وثلاثة وعند هؤلاء أن كل هذه الأقوال صواب يجوز للمسلم أن يأخذ رأياً منها وأن يعمل به‏.‏

وبين الفئة الأولى التي وقفت عند النصوص فقط بلا فهم ولا وعي لمتطلبات تطبيقها والتي جعلت أبواب الدين كلها باباً واحداً لا يجوز الزيادة فيه والاجتهاد وبين الفئة الثانية التي جعلت كل رأي صدر من عالم ما يجوز العمل به‏.‏ أقول‏:‏ بين هاتين الفئتين قامت المعارك الكلامية والمناقشات واستخدمت الآيات والأحاديث وأولت تأويلاً بعيداً وشغل المسلمون وما زالوا مشغولين‏.‏‏.‏ وقد غاب عن هؤلاء وهؤلاء بعض القواعد والموازين التي تضع الحق في نصابه، وهذه القواعد تتلخص في وجوب التفريق بين الثابت والمتغير من أمور الدين وهاك هذه القواعد‏:‏-

أولاً‏:‏ الله سبحانه وتعالى هو الحق وكل ما صدر عنه من خبر فهو صدق، وكل ما صدر عنه من حكم فهو عدل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏115‏)‏، و ‏"‏كلمة‏"‏ مفرد مضاف إلى معرفة فتعم أي كلمات، و ‏"‏صدقاً‏"‏ أي في الأخبار و ‏"‏عدلاً‏"‏ أي في الأحكام‏.‏ فالكتاب الموحى به للنبي صلى الله عليه وسلم والسنة الموحى بها إليه أيضاً كلها حق‏.‏ ومن ظن غير ذلك فقد كفر، وهذه أول الثوابت‏.‏

ثانياً‏:‏ القرآن نزل بلسان عربي، والسنة نقلت إلينا باللسان العربي، وللعرب تصريف بليغ في كلامهم ودلالات الألفاظ مختلفة أحياناً‏.‏ والمعاني تختلف أيضاً باختلاف صيغ التراكيب من التقديم والتأخير والحذف‏.‏ وأفانين القول العربي واستخدامه لأنواع من الكنايات والتشبيهات والاستعارات كل هذا يجعل الحذق والفهم للنصوص القرآنية والحديثية متفاوتاً عند الأفراد، ولا يقول عاقل أن فهم الناس جميعاً لنصوص الكتاب والسنة بدرجة واحدة وهو يشاهد ثقافتهم واستيعابهم وفهمهم لأساليب اللغة وتراكيب الكلام وأفانين القول ولهذين السببين تفاوت الناس في الفهم، هذا مع العلم أن الأصل واحد والحق واحد لا يتعدد وهذه ثانية، الفهم متغير بتغير الأفراد والحق واحد لا يتغير بل الفرد الواحد يتغير فهمه في النص الواحد بتغير الزمان والوقت فأنت قد تفهم الآن آية على نحو ما، ثم تفهمها على نحو مخالف تماماً في وقت آخر‏.‏ وقد تقرأ آية دهراً من عمرك ثم ينشأ لك فيها فهم جديد ما خطر ببالك قط‏.‏ وهذا عمر ما كاد يسمع قول الله من فم أبي بكر الصديق‏:‏ ‏{‏إنك ميت و إنهم ميتون‏}‏ ‏(‏الزمر‏:‏30‏)‏، حتى قال‏:‏ والله لكأني ما سمعتها إلا الساعة‏.‏ والحوادث في هذا الباب كثيرة وليراجع كل منا نفسه في هذا‏.‏ والشاهد‏:‏ أن الفهم يتغير ويختلف باختلاف الأفراد والحالات والحق في ذلك كله واحد لا يتعدد‏.‏ والموفق إلى الحق من وفقه الله تعالى‏.‏

ثالثاً‏:‏ علوم الإسلام تنقسم إلى قسمين بوجه عام، قسم نستطيع أن نسميه القسم الثابت الذي لا يقبل التطوير ولا الاجتهاد ولا الإضافة وهذا القسم هو العقائد ‏"‏مسائل الإيمان‏"‏ والعبادات ‏"‏أركان الإسلام الأربعة‏"‏ والأخلاق ‏"‏مجموعة الفضائل الخلقية كالصدق والإحسان والشجاعة و‏.‏‏.‏ الخ‏"‏ هذه الأمور هي الثوابت في الدين ولا يجوز أن نجري عليها قط أمور الاجتهاد والإضافة‏.‏ فصفات الله سبحانه وتعالى والملائكة والجنة والنار واليوم الآخر وعذاب القبر، وغير ذلك من مسائل الغيب لا وجه في هذا مطلقاً لأي إضافة جديدة لأنه لا وصول إلى علم جديد في هذا إلا بالوحي، ولا وحي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو خلافنا الأساسي مع المتصوفة‏.‏ فالمتصوفة قد ركزوا ترهاتهم وخزعبلاتهم وكشوفاتهم المزعومة في كشف حقائق هذه الأشياء في ظنهم ولذلك يقول قائلهم‏:‏ اطلعنا على الجنة والنار ورأينا كذا وكذا مما لم يخبر به الرسول‏.‏ ويقول الآخر‏:‏ أصعدني الله إلى سماواته فرأيت كذا وكذا، ويقول الآخر‏:‏ التقيت بالملائكة وشاهدت كذا وكذا ويقول الآخر‏:‏ نزلت الأرض السفلى ورأيت وسمعت‏.‏‏.‏ الخ هذه الافتراءات والخزعبلات، وهذا الباب الغيبي لا يفتح أصلاً إلا بالوحي، ولا وحي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما العبادات أيضاً فلا يجوز الإضافة فيها لأن الإضافة فيها مبطلة، فالصلوات من فرائض ونوافل لا يجوز الزيادة فيها على المشروع، فركعة مضافة على الركعات الأربع يبطل الصلاة واستحداث نافلة لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يصدق عليها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد‏]‏ ‏(‏أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة‏)‏، وكذلك إضافة هيئات جديدة أو صور جديدة لأي نوع من أنواع العبادة‏.‏

باختصار، لا جديد في الصلاة والصوم والحج وفي فرضيات الزكاة ويجب أن يبقى كل ذلك على الصورة والنحو المشروع‏.‏

كذلك الأخلاق وتربية النفس لا يجوز تغير هذه الموازين وإلا اختل نظام الأخلاق وأصبح الحق باطلاً والباطل حقاً‏.‏

هذه الأمور الثلاثة هي من قسم الثوابت في الدين وكل إضافة فيها تدخل في أبواب الابتداع وإن كان هناك ثم اجتهاد فيها فهو اجتهاد في الأخطاء والضرورات التي تقع لبعض الأفراد كمن نسي ففعل كذا أو أخطأ ففعل كذا أو اضطر ففعل كذا، ففي هذه الأبواب من الخطأ والنسيان والضرورة ينحصر اجتهاد المجتهدين وكل ذلك في هذه الأبواب الثلاثة‏:‏ ‏"‏العقائد، والعبادات، والأخلاق‏"‏‏.‏

رابعاً‏:‏ ‏"‏الإنسان مدني بالطبع‏"‏ هذه الكلمة التي أطلقها ابن خلدون تصف حقيقة بشرية وهي أن البشر يحتاجون أن يعيشوا في مدن وفي تجمعات‏.‏ ومع اجتماع البشر وتكاثرهم ونماؤهم تتعدد معاملاتهم وتعظم مشكلاتهم، وينشأ أحياناً الصراع بينهم بدلاً من التعاون في سبيل حفاظهم على ذواتهم أو حبهم لها ووسط هذا التعاون الضروري والصراع الدائم تتشابك المعاملات وتختلف المصالح، ولو خلى الله بين البشر وأنفسهم لأكل بعضهم بعضاً، ولساد قانون الغاب، ولكن الله من رحمته أرسل الرسل معلمين وهادين ومرشدين وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط، والموازين التي أنزلها الله قاضية بالعدل بين الناس، وقد أكمل الله أصول هذا العدل في كتابه القرآن وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك نزل ما ينظم علاقة الرجل بالمرأة، والمسلم بأخيه من بيع وهبة والحاكم بالمحكوم، والمجتمع بالمجرم الخارج عليه‏.‏ وكل ذلك في نظام بديع لو أقامه الناس لأقاموا سعادتهم على الأرض‏.‏

والنصوص القرآنية والحديثية التي نزلت في هذه المعاملات كانت بمثابة الضوابط والأصول العامة والإطار الذي يضيء للمسلمين الطريق ويسمح لهم أن يشرعوا لأنفسهم على هديه كلما جد لهم جديد مع أنفسهم أو مع أعدائهم‏.‏ وهذا هو أعظم المتغيرات في هذا الدين ولكنه ليس متغيراً مطلقاً ولكنه متغير وفق ثوابت من القواعد العامة والحدود الفاصلة بين الحلال والحرام والمطلوب والممنوع‏.‏

والمهم أن باب المعاملات باب عظيم من أبواب الاجتهاد وذلك لاتساع شئون المعاملات وتعددها وتغيرها بتغير الزمان والمكان والناس، ونستطيع أن نقول أن هذا الباب إذا عرفت أصوله وحدوده المنصوص عليها في الكتاب والسنة واستطعنا أن نستوعب حاجة المسلمين ومشكلاتهم اليومية في شئون حياتهم المختلفة من سياسية، واقتصادية، واجتماعية استطعنا أن نصل إلى اجتهاد سليم وإلى رقي دائم وسير سليم في ظل نظام الإسلام وقانونه‏.‏ وهذه مشكلة المشكلات أيضاً وذلك أن الثابت من أبواب الإسلام العلمية ‏"‏العقائد، والعبادات، والأخلاق‏"‏، لا يشكل مشكلة لأنه واضح قريب الفهم قليل الاختلاف فيه‏.‏ وأما شئون المعاملات والسياسة والاقتصاد والاجتماع فهو مع ثبات أصوله متغير تغيراً عظيماً جداً، فأحوالنا السياسية تتغير كل يوم وتحتاج إلى اجتهاد جديد مع هذا التغير وكذلك معاملاتنا الاقتصادية، فنحن لا نعيش في العالم بمفردنا بل يشاركنا فيه أمم وشعوب كثيرة ولها معاملاتها ولهم ضغوطهم علينا فما الواجب معهم‏؟‏ أكتب هذه الرسالة وهذه مشكلة البترول قائمة ومنا من يقول يجب إدخال البترول في المعركة ومنعه عن الدول التي تساعد إسرائيل ويقول آخرون لو منعناه انتهت الحضارة ودمرنا العالم وهذا إفساد في الأرض والله لا يحب الفساد ويقول آخرون بل لو منعناه حاربنا الأعداء واستولوا عليه وخسرناه‏.‏‏.‏ الخ وكل هذا يحتاج من علماء المسلمين وإن لم يكن لهم اليوم في تصريف شئون بلادهم شيء يذكر – إلى اجتهاد ومشاركة لأنه من باب النصح للأمة كما قال رسول الله‏:‏ ‏[‏الدين النصيحة‏]‏ ثلاثاً‏.‏ قلنا‏:‏ لمن‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم‏]‏ ‏(‏رواه مسلم‏)‏‏.‏

فمن النصح لعامة المسلمين تقديم النصح لحلول هذه المشكلات الذي لا تصيب واحداً منا فقط بل تقع على الأمة كلها‏.‏ وهذه المشكلة واحدة من آلاف المشكلات الاقتصادية التي نواجهها الآن وكل هذه المشكلات تحتاج من المسلمين إلى فهم وعلم واجتهاد‏.‏ وهذا الفهم كما أسلفنا القول مراراً يجب أن يكون في إطار النصوص والقواعد والحق الذي أنزله الله سبحانه وتعالى‏.‏ وهذا الاجتهاد في هذه الأمور ‏"‏المعاملات‏"‏ هو أعظم المتغيرات في هذا الدين‏.‏ وهو بالطبع متغير يخضع إلى الثابت الذي أنزله الله سبحانه وتعالى وتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

 مشكلات تعترض طريقنا

بالرغم من حاجتنا الماسة إلى العلماء المجتهدين العاملين المخلصين وإلى سواد الأمة الذي يخلع ربقة التقليد ويطالب بالدليل ويسير خلف العلماء على بصيرة فيطالبهم بالحجة ويناقشهم الرأي ولا يسير خلفهم كالسائمة‏.‏ أقول‏:‏ بالرغم من هذه الحاجة الملحة لتخرج الأمة من سباتها الطويل، وتبعيتها الطويلة للمفسدين في الأرض من حكام السوء الذين أذلوها بسوط الطغيان، وحكموها بشريعة الشيطان، بالرغم من كل ذلك فإن هناك عقبات تقف في طريقنا، وأهم هذه العقبات ما يلي‏:‏-

أولاً‏:‏ الانفصال الذي حدث في الأمة بين الحكم والشريعة‏.‏ فمنذ سقوط الخلافة العثمانية -وإن كانت في آخر أيامها حكماً ظاهرياً بالإسلام- والبلاد الإسلامية تحكم بقوانين وضعية منافية لحكم الله، وبالرغم من أن هذا التبديل لم يمر عليه غير نصف قرن فقط، فإنه قد نشأ جيل جديد من أبناء المسلمين يعادي الإسلام أو على الأقل يجهل شريعته‏.‏ وهذه الخمسون سنة الأخيرة قد أحدثت آثاراً مدمرة في البشرية جميعاً، فالتحولات الاجتماعية والسياسية والعقائدية سريعة جداً فقد حدث في هذه الحقبة حربان عالميتان اندثرت فيها دول وحضارات وقامت دول أخرى، وتبدلت القوانين والأخلاق والعقائد تبدلاً كاملاً في كل ناحية من نواحي الأرض تقريباً‏.‏

ولا يكاد الناس يلاحقون اليوم التحولات السياسية والعقائدية والفكرية، وهذه التحولات بالطبع يتبعها القانون والتشريع فما كان حراماً بالأمس أصبح مباحاً بل مستحباً اليوم والعكس بالعكس، ووسائل التأثير على الناس قد تطورت تطوراً سريعاً فأين ‏"‏خطبة الجمعة المحدودة‏"‏ من البث الإذاعي والتلفزيوني، وأين ‏"‏الكتاب‏"‏ من المدارس والجامعات التي تنشر المبادئ الجديدة، وأين المخطوطات القليلة التي كانت تتداولها الأيدي من الذي تقذف به المطابع اليوم من ملايين الأطنان من الصحف والكتب والنشرات، وعامة ما تقذف به يهدم العقائد القديمة والأخلاق والشرائع‏.‏ هذا كله إلى سياسة عليا للدول تسير في اتجاه إلى المادية وصراع على البقاء‏.‏ هذا العالم الذي نعيش فيه والذي يغير جلده مع مطلع كل شمس، ويغير عقائده ومناهجه وتشريعاته ونظمه وأخلاقه وسياساته كما يغير ألوان الملابس والسيارات أصبح عالماً سمته الأساسية التغيير، وليس نحو الأفضل وإنما التغيير للتغيير فليس هناك وقت للمفاضلة بين الفاضل والأفضل أو بين الجيد والرديء‏.‏

وعلماء الإسلام يجدون أنفسهم اليوم وسط هذه الدوامة المدمرة وليس في أيديهم من وسائل الاتصال بالناس إلا وسائل إعلامية محدودة كخطبة أو درس في مسجد أو صحيفة محدودة لا يقرؤها إلا نفر يسير، وقد حجب الناس عنهم بتلك الوسائل الإعلامية الضخمة التي يملكها الباطل وتسير في ركاب الشيطان‏.‏ ثم وهؤلاء العلماء لا يجدون من الأوقات ما يتفرغون به في الرد على الشبهات أو ملاحقة ما يقذفه أهل الباطل من شكوك وظلمات ولذلك تعطلت فاعلة الاجتهاد وقل رجاله بل ندروا، وأصبح المجال مفتوحاً أمام رواد الباطل ومروجي الخرافات‏.‏

وهكذا أدى انفصال السياسة والحكم عن الدين إلى إنزواء علماء الشريعة ووضع شأنهم وانشغالهم بتحصيل عيشهم وقوت أولادهم عن النظر في الدين والعلم والحياة‏.‏ فلا نجد عند أحدهم فرصة لقراءة صحيفة أو متابعة لأخبار الناس وتحولاتهم أو معرفة لعقائدهم وسلوكهم، وبذلك ظهر علماء الشريعة وكأنهم يعيشون في غير عصورهم ويتكلمون مع غير بني جنسهم‏.‏

ولو كانت السياسة والحكم تسير في ركاب الدين لكان لعلماء الشريعة شأن آخر، وذلك أنهم سيستشارون ويؤخذ رأيهم في مشكلات الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسيكون لهم شأن آخر، فسيطلعون على أحوال الناس ويشاركون في توجيههم وإرشادهم، ولكن السياسة أهملتهم بل واحتقرتهم وازدرتهم، فهانوا على الناس ثم هانوا على أنفسهم وانشغلوا بتحصيل العيش‏.‏ وانصرف الناس عنهم وجمدت بذلك عجلة الاجتهاد وهذه أولى مشكلاتنا ولا حل لها إلا برواد مخلصين من علماء الشريعة يهبطون إلى ميدان الدعوة ويصارعون الباطل بالحق والسياسة المنحرفة بالسياسة الشرعية، وذلك حتى تعلو كلمة الحق على كلمة الباطل، وفي جهادهم هذا وسعيهم هذا سيضطرون إلى الاجتهاد لمعرفة حكم الله في مشكلاتهم الحادثة، وبذلك يروج سوق الشريعة فهماً وعملاً وتطبيقاً واستنباطاً‏.‏

ثانياً‏:‏ عندما انفصل الحكم عن الإسلام، وأصبح الحكم دنيوياً جبرياً يسعى أصحابه للبقاء فيه بكل وسيلة، ويسترضون الناس بكل طريق، ويبطشون بأعدائهم في غير رحمة، وكان مع ذلك سواد الشعب مسلمين يحبون الإسلام وإن كانوا يجهلونه فإن كل حاكم عمد إلى استئناس طائفة من أهل العلم بالشريعة فسلمهم مناصب دينية في دولته وسلطهم حرباً على كل داع بحق إلى نهضة إسلامية ترجع الشريعة إلى نصاب الحكم والحاكم إلى ميزان العدل‏.‏ وعمد هؤلاء المستأنسون إلى حرب الداعين إلى الإسلام بحق فلم يجدوا من فرية يلصقونها بهم إلا أنهم خارجون على إجماع الأمة ومحاربون للأئمة، ومبتدعون بالدعوة إلى الاجتهاد ويزعمون أن الأئمة الأربعة قد كفوا الناس مؤونة الاجتهاد فما من حكم إلا وقد دونوه وتكلموا فيه، وما هذا الداعي إلى الاجتهاد إلا مفتر على الأئمة كاره لهم، وبذلك ثوروا العامة على العلماء المخلصين والدعاة الهادين المهديين، ويكفي عند عامة الناس أن يقال أن فلاناً يكره الأئمة الأربعة أو ينتقص من شأنهم حتى يقوموا في وجهه من غير ترو ولا فهم ويرموه بكل نقيصة، وبذلك ينصرف الناس عن دعوته ويسلم لأهل السياسة ما أرادوا ولعلماء السوء ما وسعوا‏.‏ والعجب أن الفرية إذا تناقلتها الألسن قد يقع فيها الصالحون من الناس وبغفلة منهم وظن أن العدد الكثير من الناس لا يقع في خطأ وبذلك يعظم تصديق الفرية لرؤية بعض الصالحين يقول بها، وقد يكون قوله بها ما كان إلا غفلة وتهاوناً‏.‏

المهم أن أصحاب النوايا السيئة لا يعدمون كذباً وافتراء ولا ينفكون عن الرمي بالعقبات التي تحول دون استرداد الأمة لعافيتها التشريعية والإيمانية والعلمية‏.‏ ولن يكون ذلك إلا بعلماء عاملين مجتهدين، وبعامة واعية تطالب علماءها بالدليل والحجة وتسير خلفهم ببصيرة ووعي وبذلك يضيق الخناق على أهل الباطل وينكشف أهل السوء الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب وليس من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، ويلبسون للناس الحق بالباطل، ويكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويعطون لكل ظالم من الحكام ما أراد من فتوى وحكم ملبسين إياه آيات من القرآن وأحاديث من أحاديث سيد الأنام عليه السلام ولا ينكشف هؤلاء الأفاكون إلا بالشعوب الواعية التي تميز بين الحق والباطل والصحيح والزائف، ولا يمكن للأمة والشعب أن يملك هذا التمييز إلا إذا عرف الطريق إلى الكتاب والسنة وكيف يطالب بالدليل وكيف يفهم الدليل، وكيف يكتشف صدق العالم وكذبه، وكيف يميز بين الصادقين المخلصين والكاذبين الزائفين‏.‏ وبذلك تتخلص الأمة من المنافقين وتتمسك بالمؤمنين ويروج سوق العلم والاتباع ويكسد سوق الجهل والتقليد‏.‏

وهذا من أسباب إلحاحنا على الناس في طلب الحق والدليل والتثبت من كل خبر وتمحيصه والرجوع إلى مصادره وناشريه‏.‏ وبهذا الوعي والفقه ينشأ جيل جديد يتربى على القرآن والسنة ويعرف كيف يرتبط بالدليل والحق لا بالرجال والتقليد، ويعرف كيف يميز بين الكذب والصدق وبين الإشاعة والدعوة وبين التهريج والبناء‏.‏

 من الأئمة الأربعة‏؟‏ وما موقفنا منهم‏؟‏

بالرغم من أن الإسلام قد شهد آلافاً تلو الآلاف من العلماء العاملين والفقهاء المخلصين وكان هذا جيلاً إثر جيل منذ الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا لم يمر على الناس زمان إلا وقائم لله على الناس بحجة‏.‏ أقول‏:‏ بالرغم من كل هذا فقد اشتهر عند الناس أربعة فقهاء ولد أولهم في أواخر القرن الأول وتوفي آخرهم قبل منتصف القرن الثالث أي أنهم عاشوا جميعاً في حقبة واحدة تبلغ قرناً ونصف، مائة وخمسين عاماً فقط‏.‏ فما السبب في شهرة الأئمة الأربعة‏؟‏ ولماذا انحصر أمر الفقه عند عامة الناس فيهم‏؟‏ وما موقف الأمة من هؤلاء الأئمة رحمهم الله ورضي عنهم‏؟‏

أول هؤلاء الأئمة مولداً هو الإمام النعمان بن ثابت والمكنى بأبي حنيفة رحمه الله‏.‏ ولد سنة 80 هـ وتوفي سنة 150 هـ ونشأ بالكوفة واشتهر بالفقه والرأي، حاول عمر بن هبيرة أمير العراق أن يوليه القضاء فامتنع، ثم حاول معه أبو جعفر المنصور أن يتسلم القضاء فأبى فحبسه إلى أن توفي في حبسه‏.‏ رحمه الله ورضي عنه‏.‏ اكتسب عيشه بتجارة الخز، وأمضى حياته معلماً مرشداً في الكوفة وبغداد، ورزقه الله مجموعة صالحة من التلاميذ والأتباع أخذوا العلم عنه ودونوا ما كتب كان منهم أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني وزفر بن الهذيل وأعظم ما اشتهر به الإمام أبو حنيفة إعمال الرأي والقياس وإقامة الحجة على رأيه وما يذهب إليه حتى ليقول عنه مالك الإمام الثاني‏:‏ ‏"‏رأيت رجلاً لو كلمته في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته‏"‏ ‏(‏وفيات الأعيان ‏(‏42‏:‏5‏)‏‏)‏‏.‏ والمعنى لو قلت له أثبت أن هذه السارية ذهباً لأتى بحجج يقنعك بها‏.‏ وهذه مبالغة لوصف إقناعه وقوة حجته‏.‏ وقال فيه الشافعي أيضاً‏:‏ ‏"‏الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة‏"‏ ‏(‏وفيات الأعيان ‏(‏35‏:‏5‏)‏‏)‏، وكان منهجه في درسه -رحمه الله- أن يجتمع بهم في المسجد ويلقي عليهم المسألة ثم يذهبون للبحث فيها ثم يجتمعون فيدلي كل منهم بدلوه ويقول رأيه، ثم يكر الإمام على آرائهم بالنقد والتعديل أو الإبطال ثم يقول رأيه ويكتب تلاميذه، وكثيراً ما نهاهم عن كتابة كل آرائه حيث يقول لتلميذه أبي يوسف‏:‏ ‏"‏ويحك يا يعقوب لا تكتب عني كل ما أقول فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غداً، ونقول القول غداً ونرجع عنه بعد غد‏"‏ ‏(‏ابن عبدالبر في ‏(‏الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء‏)‏‏)‏‏.‏

وقد لجأ الإمام أبو حنيفة إلى استخدام الرأي كثيراً وذلك للنصوص الصحيحة القليلة التي تيسرت لديه، ولذلك سميت مدرسته الفقهية مدرسة الرأي وقد جابهت هذه المدرسة نقداً وهجوماً شديدين من مدرسة النص التي بدأت مع بروز نجم الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه‏.‏ ثم اشتهرت وطبقت الآفاق ببروز نجم الإمام الشافعي رضي الله عنه، ثم بلغت ذروة مكانها على يد الإمام أحمد بن حنبل‏.‏ وذلك أن الإمام مالك بن أنس جمع الموطأ وقد عده العلماء أصح كتاب بعد القرآن في دقته، ثم تيسر للشافعي الذي درس الموطأ وتتلمذ على مالك نصوصاً أخرى من الحديث الصحيح ثم جمع الإمام أحمد كتابه الفذ المسند وضمنه أربعين ألف حديث فكان وما زال أوسع مرجع جمع السنة وكان لهذا الجمع الأثر البالغ في القضاء على كثير من الآراء التي تبنتها مدرسة الرأي باجتهادها وخالفت فيها الحديث الصحيح‏.‏

وبعد هذا الاستطراد في بيان مدرسة الرأي ومدرسة النص نعود للإمام الثاني من الأئمة الأربعة وهو الإمام مالك رحمه الله‏.‏

ولد مالك سنة 93 هـ وتوفي سنة 179هـ أي بعد وفاة الإمام أبي حنيفة بتسع وعشرين سنة‏.‏ نشأ مالك في المدينة النبوية محباً للعلم مقدساً للسنة معظماً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكد يبلغ عشرين سنة حتى شهد له أهل العلم أنه أهل للفتيا والاجتهاد‏.‏ جمع مالك الموطأ بإشارة من المنصور العباسي الذي أراد أن يتخذه قانوناً ليجمع الناس عليه فأبى مالك وأخبره أن العلم قد تفرق في الأمصار وهو قد جمع ما صح عنده وبلغه فقط ولذلك أبى حمل الناس عليه‏.‏ ولم يسلم مالك من مشكلات الحكام فقد وشى به إلى جعفر عم المنصور العباس فضربه سياطاً انخلعت لها كتفه‏.‏‏.‏ وكان يعتمد رحمه الله على الطريقة الإلقائية في درسه ولا يحب أن يقاطعه أحد، وهذا تماماً ضد الطريقة التي اعتمدها الإمام أبو حنيفة، وبالرغم من أنه درس الفقه على شيخه ربيعة بن عبدالرحمن الذي يكثر من الآراء حتى سمي ‏"‏ربيعة الرأي‏"‏ فإن مالك كره الرأي حتى أنه يقول وددت لو ضربت بكل رأي أفتيت به سوطاً وأكون في حل يوم القيامة‏.‏ واشتهر صيت مالك وذاع وأتته الوفود للعلم والاستفتاء من بلاد المغرب والأندلس ودون فقهه تلاميذ مجدون‏.‏ وكان لكتابه الموطأ أثر بالغ في الرجوع إلى النصوص والعناية بالسنة‏.‏ ولكنه رحمه الله قدس عمل أهل المدينة ولذلك رد به خبر الواحد الصحيح ‏(‏اقرأ حول الموضوع رسالة ‏"‏حديث الآحاد حجة في العقائد والأحكام‏"‏ لفضيلة شيخنا محمد ناصر الدين الألباني‏)‏، وقد خالفه كثير من أهل السنة والحديث لذلك، ورأوا أنه لا فضل لأهل المدينة في العلم على غيرهم ولا يجوز أن يرد فعلهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح‏.‏

وكان من أعظم حسنات وبركات الإمام مالك تلميذه الشافعي رحمه الله، هذا التلميذ الذي حفظ الموطأ وقرأه على مالك وأفتى الناس وهو ابن خمس عشرة سنة ويشهد له مسلم بن خالد بذلك فيقول‏:‏ ‏"‏أفت يا أبا عبدالله والله آن لك أن تفتي‏"‏ ‏(‏مناقب الشافعي للبيهقي‏)‏، وتنقل الشافعي بين مكة والمدينة وبهر الناس بعلمه بالقرآن وبراعته في الفقه وحذقه بالسنة، وحلاوة منطقه وسلامته حيث لم تؤخذ عليه لحنة قط، حتى أن رجلاً كالإمام أحمد يدخل المسجد الحرام فيجلس إليه في درسه فيأتيه محفوظ بن أبي توبة البغدادي فيقول له‏:‏ يا أبا عبدالله‏!‏ هذا سفيان بن عيينة في ناحية المسجد يحدث‏.‏ فيقول له أحمد‏:‏ إن هذا يفوت وذاك لا يفوت‏.‏

وطوف الإمام الشافعي ببلاد العالم الإسلامي، فسافر إلى العراق وناظر تلاميذ الإمام أبي حنيفة كمحمد بن الحسن الشيباني وزفر وذكروا أنهما رجعا عن ثلث مذهب الإمام أبي حنيفة إلى اجتهاد الإمام الشافعي ورأيه‏.‏ وبذلك تعلم أن الأئمة رحمهم الله وتلامذتهم كانوا طلاب حق لا طلاب تقليد‏.‏

وأحب الإمام أحمد بن حنبل قرينه وأستاذه الإمام الشافعي حباً عظيماً ولم يسلما من خلاف في بعض الآراء الفقهية كخلافهم في حكم تارك الصلاة، وحكم العائد في هبته، وتناظرا في مسائل كثيرة واستفاد الإمام الشافعي من صحبة الإمام أحمد كثيراً من الأحاديث الصحيحة، وكان الشافعي يقول له‏:‏ ‏"‏أنت أعلم بالحديث مني فما صح عندك فأخبرنا به لنعمل بمقتضاه‏"‏ ‏(‏ابن عبدالبر في الانتقاء ص75‏)‏، ثم سافر الإمام الشافعي رحمه الله إلى مصر واستقر بها وكان سفره إلى هناك خيراً وبركة للمصريين الذين التفوا حوله وأخذوا عنه‏.‏

وتوفي رضي الله عنه سنة 204 هـ أي في أوائل القرن الثالث الهجري‏.‏ ولما بلغ الإمام أحمد خبر وفاته حزن عليه حزناً شديداً وبكاه بكاءً مراً حتى أن ابنه عبدالله يقول له لما رأى من تأثره وبكائه‏:‏ ‏"‏يا أبت‏!‏ أي رجل كان الشافعي‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ يا بني‏!‏ كان الشافعي كالشمس للدنيا، والعافية للبدن، فانظر هل لهذين من خلف أو عنهما من عوض‏"‏ ‏(‏الوفيات ‏(‏305‏:‏2‏)‏‏)‏، وهذا منتهى الوفاء والإخلاص‏.‏ ويقول أيضاً الإمام أحمد في صديقه الشافعي وأخيه وأستاذه‏:‏ ‏"‏ما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه إلا عندما جالست الشافعي‏"‏ ‏(‏الوفيات ‏(‏305‏:‏3‏)‏‏)‏، ويقول‏:‏ ‏"‏ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي واستغفر له‏"‏‏.‏ هذه شهادات عظيمة من الإمام الجليل أحمد بن حنبل للإمام الجليل الشافعي وهي تكفي عن كل شهادة سواها‏.‏

ورابع الأئمة من حيث الزمن هو الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، ولد في ربيع أول سنة 164 هـ وتوفي ببغداد سنة 241 هـ في ربيع الأول أيضاً يوم جمعة وهو عربي الأب والأم‏.‏

بدأ الإمام أحمد بطلب علم الحديث صغيراً، وسمع من شيوخه ببغداد ثم سافر في طلب الحديث إلى الحجاز ثم اليمن وحج مرات ماشياً‏.‏ وابتدأ في تدوين ما سمع حتى اجتمع له من الحديث شيء كثير جداً واشتهر بين الناس بصلاحه وتقواه، وتعففه وقناعته ونظافة ثيابه ومظهره حتى أصبح مضرب المثل مظهراً ومخبراً وعلماً وبذلك ذاع صيته وانتشر في الآفاق وتمسك في افتائه دائماً بالحديث، ولم يعمل الرأي إلا نادراً بل كان يكره الرأي مطلقاً ويقول‏:‏ ‏"‏الحديث الضعيف عندي خير من الرأي‏"‏ ‏(‏الوفيات ‏(‏305‏:‏3‏)‏‏)‏، وقال الخلال تلميذ أحمد عنه‏:‏ ‏"‏كان أحمد قد كتب كُتب الرأي وحفظها ثم لم يلتفت إليها‏"‏ ‏(‏الايقاظ ص117‏)‏، ومع ذلك كان أحمد معجباً بالشافعي جداً محباً له كما مر ليس لاشتهاره بالرأي ولكن لفهمه للنصوص، واستنباطه منها‏.‏

وهذه الدراسة الحديثية الواسعة للإمام أحمد لم تجعله فقط ملماً بأحكام الإسلام العملية وإنما برز في فهم عقائد الإسلام ومسائل الإيمان ولذلك تصدى بالرد لكل انحراف في عصره في العقيدة أو السلوك، فأنكر على رواد الصوفية في عصره الذين بدأوا يتكلمون في الوساوس والخواطر، ورد على الزنادقة، وحارب الجهمية النافين للصفات، ووقف صلباً شامخاً أمام المعتزلة الذين قالوا بخلق القرآن وأرادوا حمل الناس على ذلك بعد إغراء الخليفة المأمون‏.‏

وفي هذه الفتنة الأخيرة فتنة خلق القرآن صبر الإمام أحمد مع نفر قليل من إخوانه وتحمل السجن والتعذيب والضرب وناظر رئيس المعتزلة، ابن أبي دؤاد أمام الواثق بالله، وأظهر الله بالإمام أحمد الحق وزهق باطل المعتزلة ولم تقم لهم قائمة بعد هزيمتهم أمامه‏.‏

باختصار، أصبح الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة في وقته بلا منازع وبقي أستاذاً لكل من جاء بعده وكان من بركاته وخيراته أساطين علم الحديث بعده‏:‏ البخاري ومسلم وأبو داود فهؤلاء تلاميذه ومن أخذوا عنه‏.‏ وبذلك كان الإمام أحمد أمة وحده وأستاذاً لأهل الحديث ومعلماً لأهل السنة‏.‏

وكان يوم وفاته يوماً مشهوداً خرجت بغداد كلها برجالها ونسائها تودعه‏.‏

هذه لمحة سريعة للأئمة الأربعة رضي الله عنهم ورحمهم تبين لك أنهم جميعاً كانوا أخوة في هذا الدين ملتزمين بالحق قولاً وعملاً‏.‏ أخذ بعضهم عن بعضهم وناظر بعضهم بعضاً ولم يتعصب أحد منهم لرأيه‏.‏ وما دعا أحد منهم الناس إلى اتباعه بل جميعهم نهوا تلاميذهم عن تقليدهم وأمروهم باتباع الحق والدليل‏.‏ كما قال أحمد لتلميذه‏:‏ ‏"‏لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا‏"‏ ‏(‏الإيقاظ ص113 وابن القيم في الأعلام ‏(‏302‏:‏2‏)‏‏)‏، يعني الكتاب والسنة‏.‏ وأقوال الإمام أبي حنيفة في هذا الصدد كثيرة جداً، وكذلك قول الشافعي ومالك ‏.‏ فالأئمة الأربعة جميعهم سلفيون بمعنى السلفية، أي أنهم متمسكون بالدليل باحثون عن الحق غير مقلدين ولا داعين للناس إلى تقليدهم والأخذ عنهم دون فهم وعلم‏.‏ بل قد حرم الإمام أبو حنيفة أن يفتي أحد بقوله إلا إذا علم دليله حيث يقول‏:‏ ‏"‏حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بقولي‏"‏‏.‏

وبذلك خلف لنا الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم تراثاً باهراً من العلم والفقه والاستنباط والأحاديث وأسهموا أيما اسهام في دفع عجلة الفهم لهذا الدين‏.‏

ولقد كان السبب في اشتهارهم وحدهم دون كثير من معاصريهم الذين جمعوا علوماً وفقهاً يسامي علوم الأئمة كالأوزاعي والليث بن سعد وأبي ثور وغيرهم أن الله قيض للأئمة الأربعة تلاميذاً مخلصين حفظوا علمهم ودونوه ونشروه‏.‏ وأما أولئك فقد درس كثير من علومهم وفتاويهم‏.‏

ولهذه الشهرة في العالم الإسلامي ولمجيء أوقات عصيبة بعد ذلك ضعفت فيها الدولة العباسية وابتدأت حركة التمزيق والانفصال في عهد الخلافة، وبروز الشعوبية والأهواء والنحل وكثرة الفتاوى الباطلة التي يسترضى بها السلاطين والأمراء وقف بعض الناس يريد أن يوقف طوفان الآراء والاجتهادات الباطلة فنادى في الناس أن لا فقه بعد الأئمة الأربعة ولا يجوز لإنسان أن يفتي بخلاف رأيهم ولا أن يخترع جديداً، وظن الذين أطلقوا هذا القول أن الناس سينتهون عن الإفتاء ولكن هيهات فقد عقبت هذه الفتوى وهي القول بقفل باب الاجتهاد وانحصار الفقه في الأئمة الأربعة فقط أضراراً عظيمة نحصرها فيما يلي‏:‏-

أولاً‏:‏ القول بالتقليد وترك البحث عن الدليل، وبذلك تعطل الفقه والفهم وانحصر جهد طلاب العلم في معرفة أقوال إمامهم فقط دون النظر في أدلته ومقارنتها بأدلة الأئمة الآخرين‏.‏

ثانياً‏:‏ التعصب والتنافس بين تلاميذ المذاهب المقلدين، والذي دفعهم إلى الوقيعة والتباغض والتقاتل والتاريخ شاهد بذلك بل وترك الصلاة وراء بعضهم البعض‏.‏ فقد ترك مقلدوا كل مذهب الصلاة خلف مخالفيهم في المذهب‏.‏

ثالثاً‏:‏ القول بأن الآراء المختلفة والمتناقضة في المسألة الواحدة كلها حق، وهذا أمر يحيله العقل لأن الشيء الواحد إما أن يكون أسود أو أبيض أو حلالاً أو حراماً ولا يمكن أن يكون الشيء الواحد حلالاً وحراماً في وقت واحد ولشخص واحد‏.‏ أو يكون الشيء الواحد باطلاً وصحيحاً‏.‏‏.‏ وكل هذا أتى من القول بالتقليد الذي استلزم القول بصحة الأقوال والاجتهادات التي صدرت عن الأئمة جميعاً‏.‏

رابعاً‏:‏ حرمان الأمة من كثير من الأقوال الصحيحة والنصوص الصحيحة التي خالف الأئمة الأربعة فيها مجتمعين الحديث الصحيح كطلاق الثلاث هل يقع ثلاثاً أو طلاقاً واحداً فبينما يقول الأئمة الأربعة جميعا أنه يقع ثلاثاً وبذلك من قال لامرأته ‏(‏أنت طالق ثلاثاً‏)‏ فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره‏.‏ مع العلم أن الحديث الصحيح بخلاف ذلك فقد كان الطلاق ثلاثاً يقع واحداً في زمن رسول الله وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر‏.‏ وهذه المسألة أفتى بها الإمام ابن تيمية رحمه الله وكانت السبب في اتهامه بالكفر والردة بناء على أن الدين فقط هو ما قاله الأئمة الأربعة وأنه ليس هناك دين وراء ذلك‏!‏

خامساً‏:‏ حرمان الأمة من البحث والاستنباط في أحكام الوقائع المتجددة‏.‏ وقد ذكرنا هذا في صدر هذه الرسالة المباركة -إن شاء الله- وبذلك ركد الفهم وبار سوق الاستنباط والعلم بالكتاب والسنة‏.‏ وسبب هذا في النهاية عزل الشريعة عن حياة الناس والتقنين لهم‏.‏

سادساً‏:‏ اتخاذ التقليد ديناً أدى إلى تشديد النكير على كل من قال بالاجتهاد ووحدة الفقه وأخوة الأذمة ووجوب الأخذ بعلمهم جميعاً الترجيح بين أقوالهم واتهم كل من قال بذلك بمخالفة إجماع الأمة والخروج على جماعتها، والقول بأن يسب الأئمة أو ينتقص مقدارهم ويحط من شأنهم‏.‏

سابعاً‏:‏ ظن الناس أنه يجوز لكل مسلم أن يأخذ رأي إمام ما من الأئمة الأربعة ولو كان النص بخلافة وبذلك ارتكب الكثير من المخالفات‏.‏

ثامناً‏:‏ نشوء ضعف الوازع الديني وذلك بأن المكلف إذا وعظ بالآية وعلم أن هذا كلام الله أو ذكر بالحديث وعلم أن هذا كلام رسول الله كان لهذا شأن عنده بعكس ما لو قيل له هذا رأي الإمام فلان أو الإمام فلان وبذلك نشأ عند كثير من المسلمين ضعف الوازع الديني والذي نشاهده في التحايل على الأمور الشرعية‏.‏

تاسعاً‏:‏ نشأة التلفيق وهو الاتجاه إلى جمع الرخص والتسهيلات الموجودة في المذاهب، وبذلك ينشأ التهاون وارتكاب كثير من المخالفات وذلك بتتبع الأقوال التي تناسب هوى كل إنسان من كل مذهب‏.‏ ولو كان الاحتكام إلى الدليل من الكتاب والسنة لما وجد هذا‏.‏

عاشراً‏:‏ تعظيم الأئمة إلى الحد الذي رفعهم إلى نسبة العصمة لهم وعدم جواز الخطأ عليهم‏.‏ ولذلك نرى كثيراً من العلماء لا يجرؤ أن يقول أخطأ الإمام في هذه المسألة مع العلم أن يرى النص بخلاف الفتوى‏.‏ وهذا التعظيم قد يصل ببعض الناس إلى رد الآية المحكمة القاطعة الدلالة، والحديث الصحيح الواضح المعنى خوفاً من مخالفة الإمام وهذا إن لم يكن شركاً بالله فهو ذريعة إلى الشرك وتقديم غير أمر الله على أمر‏.‏

هذه أضرار قليلة سردناها سريعاً أصابت الأمة من القول بقفل باب الاجتهاد ووقوف الفقه والاستنباط عند حد الأئمة الأربعة فقط‏.‏ وثمة أضرار أخرى لا يتسع لها المجال‏.‏

ولذلك كان لدعاة السلفية من هذه الدعوى موقف واضح وهو ما يوضحه الفصل الآتي‏.‏

 السلفيون والأئمة الأربعة

من هذا العرض السريع في الفصل السابق عن تاريخ الأئمة رضوان الله عليهم ومناهجهم وطرقهم في الاستنباط، يتبين أننا نحب الأئمة ونقدرهم ونتبعهم لا كما يتخرص المتخرصون‏.‏ بل الأئمة رضوان الله عليهم هم سادتنا وهم بعض من سلفنا الصالح المشهود لهم بالخير والفضل، والأئمة الأربعة هم دعاة السلفية الحقيقيون، عنهم أخذت مبادئ السلفية في اتباع النص وترك التقليد، والسلفيون في كل العصور هم أولى الناس باتباع الأئمة واقتفاء آثارهم وفهم أقوالهم، وأسعد الناس حظاً بذلك‏.‏

وأما المقلدون الذين يزعمون أنهم على مذهبهم فهم أبعد الناس عنهم، لأنهم خالفوا هؤلاء الأئمة في نهيهم عن تقليدهم والإفتاء بآرائهم دون معرفة دليلهم‏.‏ فهؤلاء المقلدون الذين يزعمون اتباع الأئمة هم أولى الناس بعداوة الأئمة ورفض مناهجهم في التعليم والعمل‏.‏ ولكن لتعصبهم وضعف عقولهم ووازعهم الديني تاجروا بأقوال الأئمة وتترسوا بهم موهمين الناس أنهم على طريقتهم ومذهبهم وما هم كذلك‏.‏ لأن كل إمام قال‏:‏ ‏"‏إذا خالف كلامي كلام رسول الله فخذوا بكلام رسول الله واضربوا بكلامي عرض الحائط‏"‏ ‏(‏الإيقاظ ص‏:‏104‏)‏ ولم يقل أحد منهم بتاتاً‏:‏ ‏"‏فضل الله وعلم الشريعة محصور فينا فقط، ولا يأتي واحد بعدنا وليس أحد معاصراً لنا يعلم شيئاً من الشريعة كما نعلم ولذلك يجب على الأمة جميعاً تقليدنا فقط واتباع أقوالنا فقط ولا يجوز لأحد الخروج عن أقوالنا بحال‏"‏‏.‏

أقول‏:‏ ما قال أحد منهم ذلك ولا أفتي بذلك، بل جميعهم -رضي الله عنهم- كانوا حرباً على التقليد والجمود وكلهم دعاة إلى الاتباع والأخذ بالدليل‏.‏

هذه خلاصة توضح الفرق بين الدعوة السلفية وغيرها من الدعوات في قضية الاجتهاد والتقليد، وهذه الدعوة السلفية هي دعوة الإسلام، والتسمية هنا اصطلاحية فقط ودعوة التقليد دعوة غير إسلامية لأنه لا نص عليها من كتاب أو سنة أو قول صاحب للنبي أو قول إمام أو قول عالم يعتد بعلمه أو حتى عقل صحيح يميز بين الحق والباطل والنور والظلام‏.‏ وإذا كان الأئمة الأربعة أنفسهم هم حرب على التقليد فماذا بقي بعد ذلك‏؟‏ وإذا كان الأئمة الأربعة هم أساتذة السلفيين بعدهم وإلى قيام الساعة فماذا بقي بعد ذلك‏؟‏‏!‏ وإذا علمنا في الفصل السابق مضار التقليد وآفاته فهاك هنا منافع وبركات القول بالاتباع والاجتهاد والأخذ بالدليل الذي هو خلاصة السلفية‏.‏

فبالرغم من أن الاتباع والاجتهاد والأخذ بالدليل شيء قد أمرنا به شرعاً فإن له مع ذلك آثاراً طيبة ومميزات كثيرة وبركات عظيمة على الفرد والأمة‏.‏ ومن هذه البركات والثمرات ما يلي‏:‏

1- المحافظة على وحدة الأمة ونبذ التعصب لبعض الرجال دون البعض الآخر، وبذلك لا يكون هناك مذاهب أربعة أو خمسة، بل مذهب واحد وطريق واحد هو طريق الكتاب والسنة، ويكون الأئمة وغيرهم من العلماء العاملين منارات على هذا الطريق الواحد ودعاة إلى هذا الطريق الواحد، وتكون أقوالهم وآراؤهم مقبولة طالما هي موافقة للنصوص المعصومة من الخطأ، نصوص القرآن والسنة الصحيحة‏.‏

2- ربط الأمة بالكتاب والسنة وبذلك يعظم الوازع الديني لأنه شتان بين من يذكر بكلام الله وكلام رسوله ومن يذكر ويوعظ بكلام آخر‏.‏

3- بناء الفرد المسلم بناء صحيحاً سليماً وذلك بتعويده طلب الحق، والمطالبة بالدليل‏.‏ وبذلك يعمل عقله وقلبه ويكون في كل أموره باحثاً عن الحق، لا مقلداً للرجال وبذلك يعظم الحق في عينه ويتعلم كيف يميز بين الأقوال‏.‏

4- إذا كان الأصل في معرف الدين هو الدليل والنص والكتاب والسنة راجت سوق العلم بالكتاب والسنة وارتبط الناس بأصول الدين ارتباطاً حقيقياً، وأما إذا كان العكس وارتبط الناس بالأقوال والآراء ضعفت الاستفادة من الكتاب والسنة وأصبحت قراءة القرآن والحديث للبركة فقط لا للعلم والتدبر والفقه وبذلك نخالف كلام ربنا الذي قال‏:‏ ‏{‏كتاب أنزلناه إليك ليدبروا آياته وليذكر أولوا الألباب‏}‏ ‏(‏ص‏:‏29‏)‏، فأين من أخذ العلم من الكتاب والسنة وبحث عن الدليل عمن أخذه من الأقوال والآراء المنسوبة للعلماء، وقد تكون النسبة صحيحة وقد تكون النسبة خاطئة‏؟‏‏!‏

هذه بعض بركات فتح الأبواب إلى الكتاب والسنة والأخذ بالدليل وترك التعصب والتقليد‏.‏ فهل بعد ذلك يلام الداعي إلى هذا‏؟‏ وهل جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ليدعونا إلى هذا وهل يستوي من يتبع المعصوم ممن يقلد غير المعصوم‏؟‏‏!‏

وبعد، فهذه عقيدتنا ودعوتنا ليست بدعاً ولا ابتداعاً، وإنما هي دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهي دعوة الإسلام، وهي المنهج والطريق الذي سار عليه الصحابة رضوان الله عليهم الذين شهد الله لهم بالخير والفضل ودعوة الأئمة الأربعة وغيرهم من صالحي هذه الأمة الذين أحبتهم الأمة وشهدت بإمامتهم لتقديسهم الحق ودعوتهم إلى الكتاب والسنة ونحن على هذه العقيدة والمنهج بحول الله، نسأل الله أن يحيينا عليهما وأن يميتنا عليهما وأن يثبتنا عليهما حتى نلقاه والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به‏.‏

***************